إلى مَنْ نكتب؟ جدلية السؤال ورهانات التجديد في كتاب تحرير البلاغة. أحمد خيري/ باحث عراقيّ عندما نقرأ كتاباً ككتاب تحرير البلاغة نجدُ أن...
إلى مَنْ نكتب؟ جدلية السؤال ورهانات التجديد في كتاب تحرير البلاغة.
أحمد خيري/ باحث عراقيّ
عندما نقرأ كتاباً ككتاب تحرير البلاغة نجدُ أنفسنا أمامَ جنبةٍ تنتقل بنا إلى التراث البلاغيّ المصحوب بصداقةِ ما هو سلطة/ القرآن الكريم، وبين جنبةٍ أخرى يُريد لها كاتبُها الدكتور صلاح حاوي، أن تُراجع تلك الصداقةَ نحو صداقاتٍ أخرى تلحقها بواقعها المعاصر؛ وحياتها الاجتماعية، وسلوك أفرادها وظواهرهم؛ عبر العلاقة التي يقرّرها بين البلاغة والمجتمع، ويُثبت للقارئ جدواها، كما التحقتِ البلاغة، نفسها، بواقعها المعاصر منذ ارتباطها بالإعجاز القرآني آنذاك. ومن تلك الجنبتين فإنّنا سنكون أمام سؤالٍ يشغل ذهنية المؤلّف نفسه قبل اتّخاذه عنواناً لمقالنا - إلى من نكتب؟ - نحاول خلاله تتبّع تصوّرات الكاتب، التي تُثير فينا جدلية السؤال. وهي جدليةٌ ليست تفارقُ مُخيّلة الكاتب، يثيرها في عموم طروحاته، عبر ثنائية السؤال والاستشكال؛ وذلك بفعل اعتبارات السلطة التي تقنّن علاقة المقدس بعلم البلاغة، وما تحمله الذاكرة من تصوّرات عن تلك العلاقة؛ كونها - أي الذاكرة – المسؤول عن تصميم وقائع حياتنا، ورسم معالم وجود هذه الحياة، كما يقول الكاتب، تدفعه ومنذ الوهلة الأولى إلى استدراك ما هو سلطة حينما يفترض المجازفة في تقديمه رؤىً مختلفة أو مغايرة قد تُبعثر ما كان هادئاً متفقاً عليه، وشرعنة تلك المجازفة عبر فُرَصِ الاقتراح التي تحتاج إلى دليل إثباته، فما هي التساؤلات التي طرحها الكتاب وما دليل إثباتها؟
يتّجه صلاح حاوي في الفصل الأول من كتابه إلى فتح نافذة البلاغة بوصفها ممارسة معرفية يتتبّع خلالها الوعي بتلك المعرفة، التي تهدف إلى الإقناع؛ وبالحديث عن تاريخها ومراحل تدرّجها، منذ الجاحظ وصولاً إلى ابن حزم القرطاجني، فضلاً عن استرجاع الطريقة التعليمية أو البنيوية للبلاغة، التي تقوم وظيفتها على التعليم، وتقديم التدريبات عن المصطلح والقاعدة للمتعلّمين، التي يمثّل الخروج عنها خروجاً عن المألوف؛ بوصفها شكلاً تقديسيا للتراث الناتج بفعل الذاكرة كما يقول المؤلّف، ومن ثمّ فمقاربته لهذا الجانب وإلحاقه بالمقدّس، الذي تتعذّر مشاكلته، جعلته أمام إعادة فهم ما هو مقدّسٌ، بالنسبة للبلاغة؛ عبر مثلّثه الذي فرّق فيه بين (التاريخ، التراث، الذاكرة)، ويُحيل خلاله قضية التقديس البلاغيّ إلى الذاكرة؛ بوصفها مرحلة زمنية آتية بعد التراث؛ لارتباطها بمعتقداتنا التي نرى خلالها أنّ هذا الشيءَ مقدسٌ وآخر مدنس. في حين يكون التراثُ منقطعاً ويشكّل الأسس المعرفية التي يُفتَرَض أن نتغذّى بها، ويتمّ شرحها عبر الذاكرة، فيعلو خلال ذلك صوت السلطة أو يتهافت؛ وذلك بقدر علاقاتنا الاجتماعية بها، وتحديداً علاقاتنا بالمقدّس. وذاكرةُ البلاغة كما يقول حاوي هي الارتداد المستمرّ إلى الماضي، لا بوصفها هي الماضي، فضلاً عن البقاءِ في محاولة إساءة استعمال تلك الذاكرة، ومن ثمّ يُمنهج الذاكرة على أنّها صياغةٌ بشرية يعمل الانسان على تحديد توصيفها وقداستها وولادتها، وصنيعة نقترحها بناءً على رغباتنا الإيديولوجية وموجهاتنا المعرفية، فتؤمن بها الجماعة.
وهذا التعريف بالذاكرة سمح للكاتب أن يتجاوز إشكالية المقدّس؛ لطرحِ تساؤلاتٍ، يراها مُمكنة، بدافع أنّ التراث البلاغيّ صار مصاغاً بصياغة الذاكرة، بوصفها الفهم المتراكم لهذا التراث، الذي يُمثل خزانةً من النصوص والمعارف على حد تعبيره، ومن ثمّ فإنتاجُ المعرفة عبر الذاكرة هو العنوان الشرعيّ الذي يبدأ به الكاتب محوره الثاني ضمن فصله الأول، حيث مراجعة تصوّر الدراسات المهتمة بالأصل البلاغيّ، وعلاقته بالبلاغات الأخرى، وبحث ذاكرة الخطاب المقروء، عندما يتتبّع نوعية النصوص المُستَشهَد بها، والمندرجة ضمن المقدّس والنخبوي، وهي نصوصٌ سمحت للمؤلّف طرح الأسئلة الاستشكالية: لماذا استُبعِدَت من البلاغة الخطابات الأدبية الحوارية مثل الامتاع والمؤانسة، وهي خطاباتٌ غاية في الأهمية؟ وهل وقعتِ البلاغة تحت سلطة ما؟ وهل استُعمِرَت واحتُلّت وتبحث عن محرّر؟ وهل نمتلك أدوات التحرير؟ وهل يُمكن أن تخرُجَ البلاغة من عبودية الذاكرة؟ وكيف يُمكن تخليصها مفهوماً حراً يكتسب دلالته بذاته لا بغيره، ونرمّم ما يُصيبها من عَوَز ونقص؟ وآخرها ممّن تتحرّر البلاغة وكيف يُمكن أن تنهض بنفسها مجالاً في تحليل الخطاب؟
إن الجدلية التي تبعثها هذه التساؤلات وغيرها قد تُثير لدى قارئها جنبة الانحياز لما هو سلطة، وهي جنبة يعمد الكاتب إلى تخفيف وطأتها؛ عبر سؤال التضامن الذي يوضّح نواياه ويؤمّن لقارئه سلامة ما هو سلطة، إذ يقول كيف نُبرهن لحاملي الذاكرة بأنّ ما يُقَدَّم هو حسن نيّة في قراءة التراث؟ ولأجل ذلك يحدّد بأنّ دراسته تهدف إلى تحرير فهم التراث، وليس التحرّر من الذاكرة، بل من قيودها؛ لبناء علاقة جديدة مع التراث. ومن ثمّ فالتحرّر من المقدّس، حسب تصوّرات الكاتب، لا يُقابل الإقصاء له، بقدر ما يُريد الانفلات من أغلاله للنفاذ إلى أراضٍ أخرى. ومع سؤال التضامن أو ما يُعبّر عنه المؤلّف بحسن نيّة قراءة التراث، وما سبق من تساؤلات، والسعي نحو الانفلات من المقدّس، فإنّنا سنكون أمامَ فصلٍ ثانٍ، ينقّب فيه الكاتب مفهوم البلاغة وارتباطها بالنخبويّ والمتعالي؛ بالرّجوع إلى صفات الخطاب البليغ، وبيان علاقات علم البلاغة بالمقدس، بوصفه المجال الذي يحظى بمرتبة الصدارة بعد معرفة الله عزّ وجلّ، واستعراض ذاكرة البلاغة التي صارت مفتاحاً للتحرير عبر اقتراح الكاتب تسمية (البلاغة المقدّسة) التي تُقابلها إمكانية إنشاء ومعاينة بلاغات أخرى لها التأثير في المجتمع والأفراد، ومن ثمّ نشْر الأسئلة المرتبطة بهذا الجانب: كيف تتحقّق البلاغة المقدسة؟ وما مصدر فهم المقدس للبلاغة؟ ولماذا ما زلنا نعيش هذا الفهم؟ وهل محاولة الخروج عنه عيبٌ ونقصٌ في الدراسات القرآنية والبلاغية؟ وهل يُمكن الخروج عن هذا الفهم والوصول إلى مرحلة جديدة في فهم وظائف مختلفة للبلاغة تتناسب مع طبيعة العصر وخطاباته؟ وهي أسئلة سمحت للكاتب مناقشة قضية الإعجاز البلاغيّ للقرآن، بوصفها أحد أهم التساؤلات الأيديولوجية في الثقافة الإسلامية؛ وذلك للعلاقة الحميمية بين البلاغة والإعجاز، والتي تجرّ البلاغة إلى منطقة محميّة بالدراسات القرآنية يكون فيها اللاعب الأكثر تأثيراً هو المفسّر لا البلاغيّ بحسب تعبيره، ومن ثمّ التفاته إلى الرازي والزمخشري وابن عاشور في كتبهم، أهي كتبٌ بلاغية أم تفسيرية؟ والخطوة التي تتركها هذه الأسئلة هو السعي إلى تحرير هذا الفهم بنقل قضية الإعجاز القرآن من صدارتها في الدرس البلاغيّ، إلى جعلها ضمن مفردات الدراسة القرآنية وعلوم القرآن؛ واعتباره موضوعاً خاصاً لبحث الوظائف البلاغية في القرآن؛ لأنّ مسألة القداسة بتعبيره هي أعلى ممّا يُمكن ربطها بالبلاغة وهي تُمارس قدرتها في التمويه والتلاعب. وعندما نُغادر ساحة القداسة نحو مساحات أخرى اشتركت بصداقات مع البلاغة نجد أنفسنا ونحن نتابع تحرير البلاغة أمام تحديات النقد؛ فالعلاقة بينهما متداخلة أودت إلى تقديم مجموعة من التساؤلات سعى الكاتب إلى مناقشتها، فما الفرق بين النقد والبلاغة؟ وبين خطاب النقد وخطاب البلاغة؟ وكيف يُمكننا أن نتخلّص من المزاحمة النقدية لصالح البلاغيّ؟ وهي تساؤلات يُعيد خلالها صياغات الذاكرة والكيفيات التي صنّف على أساسها الدارسون وضع هذه المنجزات ضمن حقلها المعرفيّ، ليُعلن بأنّ هذه الدراسة ليست تسعى إلى قطع العلاقة الوثيقة بين النقد والبلاغة بقدر تصحيحها؛ فالبلاغة أداة الناقد المهتمّ بالنقد البلاغيّ، كذلك بالنسبة للبلاغة عند المفسرّ أو القرآني؛ فهي أداة المهتمّ بعلوم القران وتفسيره.
وحينما يُبعثر الدكتور صلاح حاوي تلك الصداقات التي ارتبطت بها البلاغة، سواء مع المقدّس أو النقد أو المادة التطبيقية كنص القرآنيّ وشعر، وتقديم التساؤلات والإجابة عنها، أو التشجيع للبحث عن صداقات أخرى، مع ما ينتمي إليه من حقل معرفيّ/ البلاغة، فلا شكّ أنّ القارئ ينتظر تلك المجازفة التي عبر عنها في بدايات كتابه ويمنحها لنفسه أحقيةً في البحث، ضمن مساحات جديدة، يكون الرّهان فيها دليل إثباتاته، وتكون بدايته الخروج عن الذاكرة لعقد تحالفات مقترحة، فما يزيد عن ثلاثين صفة للبرهنة على ضرورة التخلّص من التحالفات التي قدّمتها الذاكرة، حسب تعبيره، يتساءل المؤلف كيف يتمّ اقتراح تحالفات جديدة؟ ومن ثمّ يقول: وجب علينا إعادة التفكير بالتحالفات التي يؤمن بها التراث لا الذاكرة، أي المفهوم العام لا الخاص، النخبوي المقدس، الذي أسّست له الذاكرة التي صارت جزءاً لا يتجزأ من وهم التراث، بل صرنا نرى أنّها هي التراث، فعوملت البلاغة معاملة المهمّش؛ اذ إنّ تحالف البلاغة مع إعجاز القرآن حوّل الدرس البلاغيّ إلى درس في علوم القران، وتحالف البلاغة مع النقد انتصر فيه النقد على البلاغة، فلذا نحتاج إلى التحرّر من هذه الذاكرة ونبحث عن البلاغة مفهوماً ينسجم مع البلاغة مصداقاً وتجربة.
وبعد تلك التجربة التي يخوضها القارئ وهو يتتبّع الفصلين السابقين وينتظر خلالها ذلك التحرّر سيجد نفسه أمام فصل أخير يعلن فيه المؤلف تحالفاً جديداً بين البلاغة وعلم الاجتماع، عبر ثنائية البلاغة والمجتمع، التي تبيح التأسيس لعلم بلاغة اجتماعيّ. ويتشكّل هذا الفصل من محورين، ركّز الأول في الوظيفة الاجتماعية، وفرضية علم بلاغة اجتماعيٍّ، وتأسيس الوظيفة الاجتماعية، وانفرد الثاني في بحث الظاهرة الاجتماعية بوصفها خطاباً، وخلال ذلك كلّه يُبرهن صلاح حاوي عدم خطورة هذه المراهنة؛ بوجود المبرّرات التي تحكمها، منها التأكد على العلاقة المتينة بين البلاغة والمجتمع وتدفّق الخطابات القادرة على تقديم تصوّرات عن المجتمعات وأفرادها، وتشكّل الجماعات فيها، عبر آليات وفنون بلاغية تغذّي تلك الخطابات، وتُسهم في إيصال غاياتها الاجتماعية، فلم تعد تلك الهيمنة محصورة بالخطابات السلطوية، بل إنّ خطابات المجتمع أو المؤثّرة في توجيه وعي المجتمع ثقافياً وسياسياً ومجتمعياً ودينياً، بغضّ النظر عن مستوياتها، تحتاجُ إلى علم يحتضنها، له دراسات تصنف إمكانياتها وتأثيرها وكيفيات التبادل بين تلك الخطابات ومتلقّيها. كما يعرض للوظيفة الاجتماعية للبلاغة منذ الجاحظ ، وتحديداً في دراسته لخطابات المقموعين؛ ليبرز القوة البلاغية للفئات الاجتماعية المهمّشة مركزيةً إلى جنب مركزية السلطة، وانتهاءً بالمحطة المعاصرة في عصر النهضة أو مرحلة التنوير الاجتماعية، والاستئناس بالمقولات التنويرية (العلم والمجتمع) التي تمثّل حاجة الإنسان للبلاغة اجتماعياً؛ ليكون جزءاً بلاغياً مشاركاً في المجتمع، متجاوزاً علاقة البلاغة بالخواص. أمّا الظاهرة الاجتماعية بوصفها خطاباً فقد حقّقت بلاغة الجمهور هذا الانشغال بالظواهر الاجتماعية بوصفها خطابات بلاغية. ومن هذه الظواهر ظاهرة التصفيق، بوصفها إحدى الاستجابات البليغة التي يستطيع الجمهور إنتاجها في سياق التفاعل اللفظيّ الآني مع خطابات المتكلم؛ والطقوس الدينية وفاعليتها في المجتمعات العربية التي تظهر قيمتها عندما تتحوّل إلى ظاهرة اجتماعية لها فاعليتها البلاغية، ومن ثمّ فإنّ هذه الطقوس بوصفها خطاباً وفعلاُ دينياً بلاغياً تحقّق الوظيفة الاجتماعية المتساندة عبر وظيفتي التخييل والاقناع، حسب تعبيره. ثمّ ينتهي إلى استعراض البلاغة النقدية ذات التوجّه الناقد للخطاب، والتي تظهر فيها أشكال الممارسة النقدية عبر انتقاد الهيمنة وانتقاد التحرّر، وبالتركيز على خطاب السلطة الذي يدعم الممارسات الاجتماعية المتحكّمة في المهيمن عليه؛ عبر التمويه والتحايل المنتَج من خلال النخب الحاكمة، المتعارضة أفكارها مع مصالح الناس.
وأخيراً فإنّ سؤال الكتابة الذي نقرّره عنواناً مُبهماً لما قدّمه كتاب تحرير البلاغة: إلى مَنْ نكتب؟ تنكشف ضبابيته بعد عرضنا لتلك الموضوعات التي تناولها صلاح حاوي في مُجمل كتابه، وكتاباته الأخرى؛ إذ يلتمس منها القارئ فكرة الكتابة للمجتمع. لكن اقتراح التحالفات في حقول تُعالج مسألة الخطابات وتسعى إلى تحليلها؛ تأخذ على كاتبها عاتق التطبيق، الذي ينتشل هذا التحالف من فرضية الاقتراح والإثبات النظريّ إلى التمثيل العمليّ. والسؤال الذي يتركه القارئ وهو يتتبّع كتاب تحرير البلاغة وما يحتويه من رؤى تُنبّئ له مدى أهمية مقاربة الظواهر الاجتماعية وخطابات المجتمع، التي يكون جزءُ من نتاجها السعي نحو التغير الاجتماعي: هل كان كتاب تحرير البلاغة مجازفة يعتقدها الكاتب وهو يسطّر أولى كلماته تعبيراً عن ذلك أو إنّها أحقّية في البحث تمكّن من إثباتها كما قال؟ والإجابة عن ذلك تُترَك للقارئ، وتختصرها الأعمال التطبيقية التي يتّخذها حاوي مشروعاً يسخّر له كتاباته، كفاعلية الطقوس الدينية، وخطاب العنصرية في المجتمع العراقي ّ، الغجر: هوية بلاغية متأزمة وغيرها